أي مروءة وأي عظمة هذه ؟
إن الملوك إذا شابت عبيدهم *** في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً *** قد شبت في الرق فاعتقني من النار
أحبتي:
لقد اقتضت تشريعات الإسلام وأحكامه ألا يعيش المسلم لنفسه وحسب، بل لابد أن يتعدى نفعه وخيره للآخرين، ويقدم ما يستطيع من أعمال ينتفع بها الناس من حوله وأن يكون عنصراً فعالاً في مجتمعه وأمته فيقدم من وقته وجهده وماله لخدمة الآخرين ونفعهم وإدخال البهجة والسرور عليهم وجعل الإسلام هذه الأعمال والأفعال والسلوكيات دين يتعبد بها المسلم ربه ورتب الله على ذلك الجزاء العظيم في الدنيا والآخرة،
وأمر - سبحانه وتعالى- بفعل الخير وإسداء المعروف وجعل ذلك من سمات الفلاح فقال - سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج: 77)..
بل دعا - سبحانه- إلى المسارعة والمسابقة في فعل الخير وتقديم النفع وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل عمل وكل حركة وكل سلوك يقوم به المسلم فإنه يؤجر عليه قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين أثنين صدقة، تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) (متفق عليه)...
والناس معادن كل واحد منهم يحمل بين جوانحه قيم وأخلاق تعبر عن شخصيته، وأن منهم مفاتح للخير ومغاليق للشر.
إن مشاغل الحياة ومشاكلها وظروفها وأحوالها تقتضي أن يتعاون الناس مع بعضهم وأن ينفع بعضهم بعضاً وأن يبذل المعروف من يقدر عليه دون أن يطلب أحد منه ذلك ولا ينتظر من الآخرين أن يكافئوه أو يشكروه فالإنسان العظيم لا ينتظر جزاءه ممن حوله بل غايته أسمى وهدفه أكبر من ذلك ويكفيه ثواب الله ورضاه..
هذا موسى - عليه السلام -في أرض لا يعرف فيها أحدا وهو خائف ومطارد من فرعون وجنوده، ومع ذلك لم يتأن وهو يرى امرأتين ضعيفتين لا تسقيان بسبب الزحام وكثرة الرجال فبادر إلى بذل المعروف وتقديم النفع فسقى لهما سقا لهما ثم تولى إلى الظل ليشكر الله على ما حباه من النعم وهيئ له الأسباب لنفع الآخرين.. وكم دعا - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمة إلى بذل المعروف وتقديم النفع للآخرين وكم حثهم على ذلك ورغبهم في هذا العمل بل وتمثل هذا الخلق وهذا السلوك واقعاً عملياً في الحياة فنفع الله به الصغير والكبير والرجل والمرأة والمسلم والكافر والطير والحيوان، ولذلك لما عرض جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: وقد بيت خصال المعروف التي قدمها لمن حوله: "كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق". [البخاري ومسلم]... ولذلك اقتدى به - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير من أمته وساروا على نهجه فظهر في تاريخ أمتنا عظماء.. رجالاً كانوا أو نساء.. حكاماً أو محكومين قدموا المعروف وبذلوا الخير لمن حولهم فنفع الله بهم البلاد والعباد وخلد التاريخ ذكرهم إلى قيام الساعة فهذه هي أمة الخير والعطاء.
أيها الأحبة
لقد جعل الله - سبحانه وتعالى-الأمر بالمعروف من العلامات التي يعرف أهل الكتاب بها النبي - صلى الله عليه وسلم- وإن منع الآخرين من الانتفاع بما تقدر عليه وتستطيعه ولا تحتاج إليه له عاقبة وخيمة فإلى جانب سخط الناس وبغضهم فإن الله - سبحانه- يجازي العباد على أفعالهم جزاءاً وفاقاً، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم))، فذكر منهم: ((ورجل منع فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)).
إن سيد القوم خادمهم هكذا قالت العرب قديماً ولذلك لما سأل أعرابياً أناساً من أهل البصرة: من سيد القوم في بلدكم؟ فقالوا الحسن أي البصري.. فقال بم سادهم؟
قالوا.. احتاج الناس إلى علمه فنفعهم واستغنى هو عن دنياهم.. وعن أبى ذر - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
في أحد المستشفيات شاء الله أن يجتمع مريضان في غرفة واحدة كان بهما أمراض متعددة منعتهم عن الحركة، فكل واحد على سريرة لا يستطيع أحدهما أن ينظر إلى صاحبه بجانبه، وكانت لغة التواصل بينهما هي الكلام فقط.. كان أحدهما بجانب النافذة ومسموحاً له بالجلوس في سريره لمدة ساعة يومياً بعد العصر، أما الآخر فكان عليه أن يبقى مستلقياً على ظهره طوال الوقت.. كان هذا المريض الذي سمح له بالجلوس على النافذة ساعة كل يوم يستغل هذا الوقت لينقل لصاحبه ما يدور في هذا العالم، وكان الآخر ينتظر هذه الساعة كما ينتظرها الأول؛ لأنها تجعل حياته مفعمة بالحيوية، وهو يستمع لوصف صاحبه للحياة في الخارج.. فيوم من الأيام يصف الشارع ويوماً يصف حركة الناس ويوماً يصف حالة الجو، ويوماً يصف الأطفال والمناظر الجميلة، والحدائق الغناء، وهكذا كل يوم... وكان المريض الآخر يشعر بالسعادة والراحة.. ومرت الأيام والأسابيع وكل منهما سعيد بصاحبه، وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحاً لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل وفارق الحياة، ولم يعلم الآخر بوفاته إلا من خلال حديث الممرضة عبر الهاتف وهي تطلب المساعدة لإخراجه من الغرفة، فحزن على صاحبه أشد الحزن، وعندما وجد الفرصة مناسبة طلب من الممرضة أن تنقل سريره إلى جانب النافذة، ولما لم يكن هناك مانع فقد أجابت طلبه، ولما حانت ساعة بعد العصر وتذكر الحديث الشيق الذي كان يتحفه به صاحبه بكى لفقده، ولكنه قرر أن يحاول الجلوس ليعوض ما فاته في هذه الساعة، وتحامل على نفسه وهو يتألم، ورفع رأسه رويداً رويداً مستعيناً بذراعيه، ثم اتكأ على أحد مرفقيه وأدار وجهه ببطء شديد تجاه النافذة لينظر إلى العالم الخارجي، وهنا كانت المفاجأة!!. لم ير أمامه إلا جداراً أصم من جدران المستشفى، فقد كانت النافذة على ساحة داخلية، سأل الممرضة: هل كانت هذه النافذة التي كان يجلس لينظر منها صاحبي؟ قالت نعم، قال: لكنه كان يصف لي كل شيء جميل في هذه الحياة، وحكى لها ما كان يدور بينهما، وهنا كان تعجب الممرضة أكبر، فقالت له: ولكن المتوفى كان أعمى ولم يكن يرى حتى هذا الجدار الأصم..!!! ولعله أراد أن يجعل حياتك سعيدة حتى لا تُصاب باليأس فتتمنى الموت.
أي عظمة هذه؟ وأي مروءة؟ إنه لم يبخل على صاحبه حتى بالشعور والأحاسيس وبذل من أجله المعروف وساعده ونفعه بأقصى ما يستطيع.. فلماذا لا يقوم كل واحدٍ منا بواجبه تجاه الآخرين من حوله حتى يكون من أهل المعروف الذين تفتح لهم أبواب السماء ويتجاوز عنهم الرب جل جلاله في يوم لا ينفع فيه إلا أعمالاً تبيض الوجوه وترفع الدرجات.
إن سعادتك وراحتك تكمن في أن تدخل السرور على قلوب الآخرين، وترسم البسمة على وجوههم، وتشعر بالارتياح عند تقديم العون لهم وتستمتع باللذة عند الإحسان إليهم.. قال عبدان بن عثمان الأزدي: "ما سألني أحدٌ حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمتُ له بمالي، فإن تمَّ وإلا استعنت بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت بالسلطان".
أحبتي: -
إن لبذل المعروف وتقديم النفع ثمرات في الدنيا والآخرة تعود على من يقوم بهذا الخلق وعلى المجتمع من حوله فمن ذلك:
- صرف البلاء وسوء القضاء في الدنيا والآخرة،ومن ذلك دخول الجنة ومن ذلك مغفرة الذنوب والنجاة من عذاب وأهوال الآخرة .
إن بذل المعروف وتقديم النفع عبادة أحاطها النبي - صلى الله عليه وسلم - بآداب تضبطها وتحافظ عليها، وأولها أن يعي المسلمون أن بذل المعروف معاملة مع الله، لا توزن بالقلة والكثرة، بل تحمد عند الله على كل حال، فقليلها عنده كثير، وهين العمل عند الرب الكريم كبير (( فاتقوا النار ولو بشق تمرة))
أحبتي:
إن باب المعروف كبير وواسع وأعماله لا تكاد تحصر وطرقه كثيرة جداً.. فالكلمة الطيبة معروف، وتقديم النفع معروف، والنصيحة معروف، وتطييب الخاطر وإدخال السرور معروف، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة معروف، وكف الأذى ومساعدة الآخرين والعفو والتسامح ولين الجانب معروف، والتبسم وبشاشة النفس تجاه الآخرين معروف، وقضاء الحاجة وسداد الدين وإطعام الطعام معروف... فلنحرص على بذل المعروف وتقديم النفع، فأبواب الخير في هذا الجانب كثيرة، والموفق من وفقه الله إلى كل خير، وكم ستجني هذه الأمة ويجني الفرد والمجتمع من هذا الخلق، وكم من قضايا ومشاكل تعصف بالناس عصفاً، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية سيجد الناس لها حلاً، وكم ستقوى الروابط والأواصر بين أفراد المجتمع وينتشر الحب والتراحم وتطيب نفوسهم وتسعد أيامهم وكم من حقوق سترد لأصحابها وكم من مظلوم ستظهر براءته ويُزال الظلم عنه وكم من ضعيف سيجد القوة في هذا المعروف عدلاً ورحمة.. فقدموا المعروف وابذلوا النفع وارفعوا رصيدكم عند الله وعند الناس وأمم الأرض من حولكم.
أحبتي: إننا بحاجة إلى مثل هذه الأخلاق في زمن أصبح المعروف ضعيفاً في حياتنا وربط الكثير من الناس أعمالهم بالمنافع والمصالح والمكاسب المادية حتى ساءت الأحوال بين الناس وفسدت الكثير من العلاقات وظهرت الكثير من الأمراض الاجتماعية.. وإنه لينبغي علينا أن نقدم ما نستطيع للآخرين من حولنا ولمجتمعاتنا ولأمتنا الخير والمعروف ونساهم بجد في صناعة السعادة في نفوسهم كل واحد بما يستطيع وبما حباه الله من نعم.
فيا أيها السياسيين ويا أيها الحكام ويا قادة الأحزاب والجماعات ويا شيوخ القبائل ابذلوا المعروف لمجتمعاتكم بصدق وساهموا في حفظ الدماء والأعراض والأموال ورأب الصدع وحل الخلاف بمعروف تقدموه بين يدي الله وعمل عظيم يسجل في تاريخ العظماء.. ويا أيها العلماء قوموا بالمعروف وعلموا الناس دينهم وعقيدتهم وقولوا كلمة الحق وكونوا ورثة الأنبياء بعملكم الصالح الذي ينفع الله به البلاد والعباد.. ويا أيها التجار.. يا أرباب الأموال.. يا من أنعم الله عليكم.. أمتكم ومجتمعاتكم ينهشها الفقر والجوع والتخلف العلمي والبطالة ابذلوا المعروف وقدموا ليوم لا ينفع فيه دينار ولا درهم إلا العمل الصالح.. ويا أيها الإعلاميون يا أهل الصحافة يا أصحاب القنوات الفضائية ألا يكفي تفريق الأمة وزعزعت دينها وعقيدتها ووحدتها..
ألا يكفي إثارة الأحقاد والضغائن والطائفية والمناطقية وتخدير الأمة وتسفيه أحلامها بما يقدمه الكثير في برامجهم ومقالاتهم.. أين معروفكم بتربية الأمة وتثقيفها وتعليمها وتوحيدها والانتصار للحق ومصالح المة وثوابتها.. ويا أيها الصغار والكبار.. يا أيها الرجال ويا أيتها النساء اصنعوا السعادة وقدموا المعروف لمن حولكم وساهموا في صلاح مجتمعاتكم ورقي أمتكم.. هذا واجب الجميع..
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير ووفقنا للقيام بالمعروف وتقبل منا أعمالنا وأصلح نياتنا وألف بين قلوبنا ووحد صفنا برحمتك يا أرحم الراحمين..