المدرسة إلى أين؟
المدرسة غنية عن التعريف باعتبارها دار من دور العلم، يتلقى الدارس فيها جل أنواع المعارف، وهي الركيزة الأساسية لتنشئة لبنة الأجيال تنشئة صحيحة لبناء مجتمع سليم.
وهي تقوم اليوم مقام الكتّاب والزّوايا الّتي كانت سائدة في زمن ليس ببعيد، تربّى فيها أجدادنا وآباؤنا أيّما تربية، وبوسائل بسيطة وفي أحلك الظّروف بل و أقساها، فلم تكن هناك طاولات ولا كراسي، وإنّما كانوا يجلسون على الحصير، ودور التعليم كانت معظمها بدون أسقف، ومرّات كثيرة كانوا يدرسون في العراء.
ولكنّها الإرادة الّتي لا تعترف بالعراقيل، فعزيمتهم أقوى من أن يثنيها البرد والمطر عن طلب العلم.
ونحن اليوم والحمد للّه فإنّنا نمتلك ما شاء اللّه من المدارس والمعاهد و في مختلف الأطوار، ولكنّ النّاظر إلى نتائج المتمدرسين يرى عكس ذلك، فأين يكمن الخلل يا ترى؟.
فهناك من يعزيه إلى المعلّم، وهناك من يرجعه إلى المتلقّي، وآخرون يلقون اللّوم على البرامج المنتهجة.
فقابلية المتلقّي في التّعاطي مع ما يتلقاه بجدّية تتباين حسب مستواه الفكري ومزاجه النفسي، بغضّ النّظر عن المستوى الإجتماعي الذي لا يقلّ أهمّية في التّأثير على تلك القابلية، إضافة إلى المحيط لأنّنا نعرف أنّ الإنسان إبن بيئته يتأثر بما يدور حوله.
المستوى الفكري:
فالمستوى الفكري يكمن في مدى ذكاء التّلميذ وأهليته وجاهزيته لتلقّي الدروس، وعلى المعلّم أن يراعي هذا المستوى ويتعاطى معه بكل جدّية وتمعّن وأن يوليه الاهتمام الأكبر، ففي القسم الواحد نجد الإختلاف والتباين بين التّلاميذ، فهناك الذّكيّ جدّا الّذي يفهم الدّرس قبل الوصول إلى القسم، وهناك الذّكيّ الّذي يفهم لأوّل ما يقرأ المعلّم وهكذا.
ونرى بعض المعلّمين وللأسف لا يتعاملون إلاّ مع التّلاميذ النّجباء في القسم مهملا البقيّة الّذين قد لا يعرف أسماءهم وإن عرفها فلا يعرف وجوههم. ممّا يولّد في نفسية التّلميذ الكراهية والنّفور نتيجة الإحساس بالنّقص والتّهميش الّذي يصل أحيانا إلى العنف الأخلاقي والجسدي أحيانا أخرى.
المزاج النّفسي:
فالمزاج النّفسي للتّلميذ يجب أن يراعى هو الآخر من قبل المعلّم، والمعلوم أنّ النّفس البشريّة تتأثّر تماشيا مع الأحداث المعاشة في حياة الفرد من مشاكل إجتماعية والّتي هيّ الشّغل الشّاغل في الإضطرابات النّفسية وكذا الشّعور بالثّقة، وللتّربيّة الدّور في ذلك المكسب، فالإحساس بالرّضا النفسي هو أوّل درس يتلقّاه الطّفل من الأبوين العارفين بمكنون التّربية وماهيتها، وهم واثقين ثقة عمياء بأن ابنهم يسير بخطى ثابتة في دروب الحياة الوعرة المسالك.
والشّعور بالنّقص وعدم الرّضا النّفسي نجده خاصّة لدى أطفال الأسر المفككّة الرّوابط الإجتماعية نتيجة الطّلاق والخصومات بين الأزواج ممّا ينغّص حياة الطّفل النّفسية فيؤدّي به إلى الإنغلاق والإنطواء والوحدة وهي أمراض نفسية تقف عائقا أمام الطّفل حائلة بينه وبين قابلية التّلقّي والتّعاطي الصّحيح مع الدّروس.
فالإهمال والحرمان من الحنان الأسري إذا ما قوبل بالإهمال المدرسي من المعلّم فلا فائدة نرجوها من ذلك التّلميذ بهذا التّصرّف، فواجب المعلّم أن يعوّض ذلك النّقص في عدم الرّضا وإن وجب عليه أن يكون أبا أو أمّا فليكن ولم لا إذا كان بالإمكان تدارك ذلك النقص في التّأطير وزرع الثّقة بالنّفس بأن يكون قدوة يحتذى بها التّلميذ لا نسخة عمّا يخلّفه في الأسرة المفككّة وشعاره في ذلك بأنّ: تلميذ اليوم هو أستاذ الغد.
التباين الإجتماعي:
ولكن من أين لنا بالرّضا النّفسي في ظل التّباين الإجتماعي الطّبقي الّذي ساد مجتمعاتنا في وقت ندّعي فيه التحضّر الديمقراطي والمساواة العادلة للتّكافل الإجتماعي الّذي لا نراه إلاّ شعارا يرفرف فوق مباني الهيئات الرّسمية الممثّلة للشّعب.
فنرى أبناء الشّعب الواحد داخل الأقسام الدّراسية كأنّهم جاؤوا من بقاع شتّى، فبغضّ النّظر عن الهندام نجد التّباين في العادات والرّؤى، فالنّاظر إلى تلامذتنا لا يرى فيهم ما يشرّف مدارسنا البتّة، والتلميذ نفسه لم يعد يرى في المدرسة مدرسة، لأنّه دخلها محمّلا بأفكار سلبيّة وعادات دخيلة لا تمتّ لأصولنا بأيّة صلة، فالإنتكاسة لأوّل وهلة هو ما يطبع فكر التّلميذ في أوّل خطوة يخطوها نحو دور العلم.
والتحمّس للعلم والتّحصيل الدّراسي لم يعد الهدف الأسمى للتّلميذ، فمدارسنا أصبحت وللأسف مرتعا خصبا للإنحطاط حيث يتربّع الإنحراف في السّلوك والأخلاق.
وهذا التّخلّف الفكري مردّه الثّقافة الإجتماعية المكتسبة سلبيا نتيجة التّقليد الأعمى والتّعاطي مع الأفكار الهدّامة لمقوّماتنا الدّينية في نظر العولمة الزائغة.
في وقت ليس ببعيد كان فيه الأستاذ والمعلّم محلّ إجلال وإكبار وتقدير لدى الجميع، لأنّه يمثّل المدرسة وما أدراك ما المدرسة !.
ولكن إذا كان التّلميذ يستمع لأبويه وهم يذكرون المعلّم بالسّوء ويجرّحونه، فكيف لنا أن نطلب منه أن يوقّره ويحترمه جرّاء هذا الإنطباع الّذي حمله عنه من والديه.
وكيف للمعلّم أن يدرّس طفلا لا يولي اهتماما لما يقوله، وكذا تصرّفات التّلاميذ الطائشة واللاأخلاقية، تصعّب عليه توصيل المعلومة كما سطّر لها ممّا يؤدّي إلى تدنّي المردود الدّراسي إلى أسفل المستويات.
دور الأسرة:
والمشكلة هنا أخلاقية محضة، تكمن في غياب دور الأسرة، وهو دور يغفل عنه الكثير من الآباء والأمّهات متحجّجين بحجج واهية لا تعطيهم الحقّ في إهمال واجباتهم اتجاه الأبناء من تربية ورعاية ومتابعة دائمة، لأنّ الأسرة هي مدرسة الطّفل الأولى حيث يتلقّى فيها المبادئ التّربوية والقيم الأخلاقية الّتي تضمن له الحصانة المنيعة من الزّيغ والإنحراف.
فالطّفل هنا بسلوكه المكتسب يكون بمثابة الصّورة النّظيرة لوالديه، فإن أساء التّصرّف أساء إليهما وإن أحسن أحسن إليهما، بل إنّه إذا أساء – كما أعتقد – الولد فقد أساء الوالدين لأنّهما لم يحسنا تربيته.
ودور المدرسة ما هو إلاّ تتمّة لما يتلقّاه الطّفل في عالمه الأسري، ولم يجعل المعلّم مربّيا فقط، بل كان من المفروض أن يكون الطّفل قد تربّى في أسرته وإنّما جاء لطلب العلم والمزيد من المبادئ الأخلاقية، فالأسرة هي منهل الأخلاق ومنبع نبل السّلوك.
لذا كان في صلاحها صلاح المجتمع، وصلاحها إنّما يعني الأخلاق كما يقول الشّاعر أحمد شوقي:
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
مكارم الأخلاق:
فعلى الآباء أن يزرعوا في نفوس أبنائهم مكارم الأخلاق الّتي دعا إليها نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم في رسالته الّتي بعث بها ربّ الكون جلّ جلاله إلى خلقه ليهتدوا.
وعليهم أن يزيّنوا لهم صورة المدرسة وهيبة المعلّم وأن يحبّبوهم في طلب العلم بالتّرغيب تارة والترهيب تارة أخرى، ولهم في ذلك ألف طريقة تربوية يسلكونها للوصول إلى مبتغاهم، ولنا في سنّة المصطفى ألف مثال لمسالك التّربية الصّحيحة، كيف لا وهو القدوة المهداة لقوله تعالى: <ولكم في رسول اللّه أسوة حسنة>.
فبالأخلاق إذن تقام الأمم وعليها تقوم الحضارات وتدوم، فكان الحرص على التّحلّي بها لدى الأفراد والجماعات منذ القدم يؤخذ بعين الإعتبار.
وكان لزاما ونحن أمّة الإسلام أن نأخذ قصب السّبق في هذا المضمار، وأن نربّي ناشئتنا على التّأسّي بالخلق الحميد ليحيوا حياة حميدة وفق مناهج تربوية تتبنّاها الأسرة والمدرسة على حدّ سواء.
سلوكيّات المعلّم:
كما لا يفوتني الإلتفاتة إلى سلوكيّات معلّم اليوم الّتي باتت بعيدة عن أطر التّربية الّتي وجد لأجلها، وهذا السّلوك الشّاذ من بعض الأساتذة لا يخفى على أحد.
فقد بتنا نقرأ على صفحات الجرائد اليوميّة في شتّى ولايات الوطن عن قصص يتكلّم الرّضيع إثر سماعها لهول ما فيها.
فهذا أستاذ يغتصب تلميذة في السّادسة من عمرها، وهذه تلميذة حبلى من أستاذها، وذاك أستاذ عشيق لإحدى تلميذاته، وتلك متيّمة بأستاذها، وآخر يتحرّش بفتيات القسم وهنّ في سنّ بناته... وهكذا.
وكذلك مدرّساتنا اللّواتي أصبحن متيّمات بممثّلات هوليوود فيتشبّهن بهنّ في استعراض مفاتنهنّ في ضيق اللّباس وقصيره ويظهرن عوراتهنّ بمظاهر تخدش الحياء في غياب ضمير المهنة، فكيف لنا أن نأمر بناتنا بالعفاف ومعلّماتهن وهنّ قدوة لهنّ يهتكن ستر الحياء أمامهنّ بتلك المظاهر.
فأيّ كلام يجدي ونحن نرى البراءة تغتصب، وحرمة المؤسّسة التّربوية تنتهك، ونحن في بلد مسلم يدّعي الحضارة والتّمدّن.
أين نحن من الإسلام بهذه السّلوكيات المشينة الّتي طبعت عقول مربّيي ومربّيات الأجيال؟.
أما آن لنا أن نعود أدراجنا نحو قيمنا الدّينية القيّمة والّتي أصبحت مرتضاة حتّى من طرف أعداء هذا الدّين القويم الّذي جاء بها.
فالمجتمعات الغربية الّتي فكّكها الإنحلال وأفتك بها الإنحراف والضلال ما فتئت تنظر في طريقة تعيدها إلى جادّة الأخلاق، فكم سنّت من قوانين رادعة تثني على السّلوك في شتّى الميادين وكأنّي بهم حكّام قرطبة أيّام زمان.
وأين حكّامنا من ذاك؟ فليتهم يحذون حذوهم، بل هم أولى منهم في مجتمع القيم.